آيكوم دبي – الإمارات العربية المتحدة
بقلم د. زين راجح الشريف
في عالم تتسارع فيه التحولات الثقافية وتتقاطع فيه الهويات، تظل المتاحف شاهدة على حقيقة ثابتة: أن الأمم التي تحفظ ذاكرتها، تحفظ مستقبلها. ومن هذا الإدراك العميق انطلقتُ للمشاركة في المؤتمر العام السابع والعشرين للمجلس الدولي للمتاحف (ICOM 2025) في دبي، في خطوة تتجاوز معنى الحضور الشكلي إلى حضور واعٍ يسعى للتعلّم، وتبادل الخبرات، وقراءة التحولات العالمية في القطاع المتحفي بعيون سعودية تنتمي لتراث ضارب في الجذور.
جاءت مشاركتي امتدادًا لشغفٍ طويل بدراسة الهوية الثقافية للمملكة، ومحاولة فهم كيف يمكن للمتاحف أن تكون منصات حية تربط الماضي بالحاضر، وتشكّل وعيًا جديدًا تجاه التراث كقيمة يومية لا كذكرى بعيدة. فالمؤتمر، بما يضمه من خبراء ومختصين من مختلف دول العالم، كان مساحة خصبة لطرح الأسئلة الكبرى حول مستقبل المتاحف، ودورها في المجتمع، وكيف يمكن تحويلها إلى أدوات تعليمية وثقافية تُسهم في بناء الإنسان قبل الحجر.
وبين الجلسات الممتدة والنقاشات المتعمقة، حملت معي مبادرتين تعبّران عن رؤية شخصية تتجاوز الإطار البحثي إلى مشروع ثقافي متكامل. كانت الأولى مبادرة “عبق”، وهي علامة تجارية سعودية للهدايا والإكسسوارات تستلهم روحها من آثار المملكة وحضاراتها المتعددة. لم أرد لــ“عبق” أن يكون منتجًا جماليًا فحسب، بل وسيلة لإعادة التراث إلى تفاصيل الحياة، ليصبح جزءًا من الهوية اليومية التي نتشاركها ونحتفي بها.
أما المبادرة الثانية “نافذة المتاحف”، فهي تطبيق رقمي يضم متاحف المملكة، ويربطها بالمسار التعليمي والسياحي والثقافي، لخلق بوابة معرفية موحدة تتيح للطلاب والزوار والباحثين الوصول إلى المعلومات بسهولة وتفاعل. هذا المشروع لا يهدف إلى التوثيق فحسب، بل إلى إعادة صياغة علاقة المجتمع بالمتاحف، وتحويلها من أماكن للزيارة إلى منصات للتعلّم والإلهام.
كانت مشاركتي في المؤتمر فرصة لتأكيد أن المملكة تحمل إرثًا لا يشبه إلا نفسه؛ إرثًا يتجاوز الحجر إلى الحكاية، ويتجاوز الماضي إلى المستقبل. ومن خلال الحوار مع الخبراء وتبادل التجارب، أصبح واضحًا لي أن المتاحف اليوم لم تعد معنية فقط بحفظ الآثار، بل بحفظ الوعي، وبناء علاقة جديدة بين الإنسان وذاكرته التاريخية.
أعود من المؤتمر وأنا أكثر يقينًا بأن الطريق نحو نهضة متحفية سعودية عالمية يبدأ من مبادرات صغيرة بروح كبيرة، ومن شغف صادق يستمد قوته من حب الوطن وإيماني بأن تراثه يستحق أن يُقدّم للعالم بأعلى مستويات المهنية والجمال. فالعمل في قطاع المتاحف ليس مهمة معرفية فقط، بل مسؤولية ثقافية ورسالة وطنية تتطلب الإبداع، والالتزام، والقدرة على إعادة قراءة التاريخ لتقديمه بصورة تلهم الأجيال.
إن المتاحف ليست ذاكرة للماضي… بل نافذة للمستقبل، ومشاركتي في ICOM 2025 كانت خطوة في هذا الطريق الطويل الذي أؤمن بأنه سيُعيد صياغة حضور المملكة في خارطة التراث العالمي بما يليق بمكانتها وتاريخها وقصصها التي تستحق أن تُروى.










إرسال تعليق