من المقايضة الى البلوك تشين :رحلة تطور المال وضرورة تنظيم العملات الرقمية

  • بتاريخ : 21 نوفمبر، 2025 - 8:15 مساءً
  • الزيارات : 92
  • بقلم المستشار محمد جاسم الذوادي
    المدير التنفيذي للمركز الدولي الخليجي

    شهدت الإنسانية عبر التاريخ رحلة طويلة في سبيل إيجاد وسائل فعّالة للتبادل التجاري، بدأت من المقايضة البدائية وانتهت اليوم عند أبواب الاقتصاد الرقمي وتقنيات البلوك تشين والعملات المشفرة. هذا التطور يعكس بوضوح قدرة الإنسان على الابتكار في تطوير أدوات تتماشى مع احتياجاته المتجددة ومع حركة التجارة العالمية التي لا تعرف التوقف.

    بدأت قصة المال عندما كان الأفراد يتبادلون السلع والخدمات بشكل مباشر، في نظام المقايضة الذي كان مألوفاً لدى المجتمعات الأولى. ومع مرور الزمن، برزت السلع ذات القيمة كالملح والحبوب والماشية كوسيط للتبادل، قبل أن تفرض المعادن النفيسة نفسها، كالذهب والفضة، كخيار أكثر ثباتاً وحفاظاً على القيمة. ومع توسع النشاط التجاري واحتياج الأسواق لعملة موحدة، ظهرت فكرة سكّ العملات المعدنية المختومة بختم رسمي، مما عزز الثقة في قيمتها وسهّل التجارة المحلية والدولية.

    ثم جاءت مرحلة ظهور العملات الورقية، التي بدأت في الشرق وانتقلت تدريجياً إلى العالم، لتصبح وسيلة الدفع الأكثر انتشاراً بفضل خفتها وسهولة تداولها. ومع تطور الأنظمة المالية، انتقلت الدول لاحقاً إلى العملات الورقية غير المدعومة بالذهب، معتمدة على ثقة الناس في الحكومات المُصدِرة وقدرتها على إدارة السياسة النقدية.

    ومع نهاية القرن العشرين، دخل العالم مرحلة جديدة، حيث حلت وسائل الدفع الإلكترونية، من البطاقات البنكية إلى التحويلات الرقمية والمحافظ الذكية، لتعيد تشكيل الاقتصاد العالمي من جديد. ثم جاءت النقلة النوعية الكبرى مع ظهور العملات الرقمية المشفّرة، التي اعتمدت على تقنيات البلوك تشين لتقديم مستوى متقدم من الأمان والشفافية وإعادة تعريف مفهوم اللامركزية المالية.

    هذا التطور التاريخي لمفهوم المال لم يكن مجرد انتقال من صورة إلى أخرى، بل كان استجابة طبيعية لمتطلبات المجتمعات وتوسع التجارة ورغبة الإنسان في إيجاد أدوات أكثر كفاءة وعدالة. وقد أصبح العالم اليوم أمام واقع اقتصادي جديد يفرض نفسه على الأنظمة المالية التقليدية ويؤثر على أساليب الاستثمار والدفع والتحويل، بل وحتى على السياسات النقدية للدول. فالتوسع المتزايد في استخدام الأصول الرقمية يعكس رغبة المستخدمين، أفراداً ومؤسسات، في الوصول إلى أدوات دفع أسرع وأكثر شفافية وأقل تكلفة.

    وفي هذا السياق، يواصل المركز الدولي الخليجي دراسة انعكاسات التحول الرقمي على المنطقة، مع التركيز على أهمية بناء بيئة قانونية وتنظيمية متوازنة من خلال مؤتمره القادم. فالتطورات التقنية لا تنتظر التشريعات، والأدوات الرقمية تتقدم بخطى متسارعة، ما يستدعي سرعة ووعي الجهات التشريعية في وضع أطر واضحة تحمي المستخدمين وتضمن نزاهة المعاملات وتقليل المخاطر المرتبطة بالاحتيال أو تقلبات الأسعار.

    ولذلك، فإن المرحلة المقبلة تتطلب وضع إطار قانوني شامل لتنظيم تداول العملات الرقمية، وإضفاء الحماية اللازمة للمستخدمين. هذا الإطار ليس مجرد ضرورة تنظيمية، بل خطوة أساسية لضمان الثقة والاستقرار في هذا القطاع الواعد، وتمكين الاقتصاد الخليجي من الاستفادة الكاملة من موجة التحول الرقمي العالمي، واستثمار الفرص التي توفرها هذه التقنيات الحديثة بما يخدم التنمية الاقتصادية المستدامة.