The Buzz Magazine
The Buzz Magazine

سان لوفان في تونس: حين تغني فلسطين على وتر القلب

متابعة الحبيب بنصالح تونس

بقلم : ايمان. السويلمي

في مساء السادس من أوغسطس ، وفي إطار الدورة السادسة والخمسين من مهرجان قرطاج الدولي، حيث يمتزج عطر الياسمين بنبض المتوسط، ارتقى سان لوفان خشبة المسرح لا كعابر فنّ، بل كحامل لذاكرةٍ كاملة، كرسول يتكلّم بلغة الموسيقى، ويصلّي بلسان الأرض. لم يكن فنانًا يقدّم عرضًا، بل كان ذاكرةً تمشي، وقلبًا يغنّي.

منذ اللحظة الأولى، بدا الحفل أشبه بوشوشة، كأنّ الصوت لا يصدر من مكبّر، بل من صدغ القلب. الأغنية الأولى لم تكن إعلان بداية، بل كانت بابًا فُتح على الذاكرة. صوتُه تسرّب كالضوء في غرفةٍ قديمة، كنسمة تعرف كيف تمرّ دون أن تُخيف، وكيف تلامس دون أن تجرح.

ماروان عبد الحميد، المعروف باسم سان لوفان، وُلد في القدس، ونشأ في غزّة، ثم هُجّر كما يُهجَّر الحلم من وسادة. والدته جزائرية-فرنسية، ووالده فلسطيني-صربي، وهو ابنٌ لهذا الخليط البديع، ابن المنفى، وابن الإيقاع، وابن الحنين. يغنّي بثلاث لغات، لا استعراضًا، بل لأن الذاكرة أحيانًا لا تكفيها لغة واحدة.

في أغنيته “ديرة”، التي تحمل اسم الفندق العائلي في غزّة، لم يكن يروي حكاية… بل كان يستحضر بيتًا مدمّرًا، وجدارًا مائلًا، وصباحًا لم يكتمل. كانت الأغنية صلاة تُرفع لا إلى السماء، بل إلى ذاكرة الطفولة. وكانت تونس، تلك الليلة، كأنّها امتداد لغزّة، كأنّ المدرّجات تشتاق مثلما تشتاق المدن.

وعلى مسرح قرطاج، لم يكن الغناء وحده من يتكلم، بل حتى الحجارة كانت تصغي. حجارة حملت فوق كتفيها أصوات قرونٍ من الغناء، وارتجفت تحت وقع أقدام أساطير الفنّ، منشدين وشعراء وعازفين مرّوا من هنا كما تمرّ النجوم في سماء صيفية. تلك الحجارة، التي شربت من بحر المتوسط وأضاءتها شمس قرطاج القديمة، ليست جمادًا، بل ذاكرة صلبة، تحفظ في مسامها صدى الفينيقيين والرومان، وتضيف الليلة صدى غزّة وهي تعانق تونس بالنغم. كانت الحجارة، في تلك اللحظة، كأنها تهمس لسان لوفان:
“مرحبًا بك بيننا… نحن نفهم لغتك، فقد سمعنا لغاتٍ كثيرة، لكننا نعرف أن الوجع حين يُغنّى يصبح أبدًا.”
وهو، كمن يقرأ ما بين مسام الصخر، غنّى وكأن المسرح نفسه يردّد وراءه، فتداخل صوت الإنسان بصوت التاريخ، وصار المشهد لوحة يختلط فيها الرمل بالموج، والدمع بالنشيد.

ما حدث على المسرح لم يكن عرضًا، بل احتفالًا بالحضور، مقاومة بالنغم، وطنًا مؤقّتًا يُقام لأجل ساعة، ثم يُطوى في الصدور. الجمهور لم يكن جمهورًا، بل شريكًا. دبكة جماعية فجّرت الوجدان، وأعلام تُرفع لا لِتُرى، بل لِتُحسّ. كانت لحظة صادقة، من تلك اللحظات النادرة التي يشعر فيها الإنسان بأنه ليس وحده، بل جزء من حكاية أكبر، حكاية تتجاوز الحدود والخرائط والمناسبات.

لكن، كما هي العادة، ما إن انطفأت الأنوار حتى اشتعل الجدل. رغم أن الحفل كان كامل العدد، وامتلأت المدارج عن آخرها، خرجت أصوات تُشكّك. قيل إنّ مسرح قرطاج “أكبر” من سان لوفان، وإنه لم يَبلغ بعدُ من التجربة ما يُخوّله اعتلاء هذه الخشبة التي مرّ عليها الكبار.

بل وُجّهت إليه تهمة قديمة-جديدة: “يتاجر بالقضية الفلسطينية”.
وهنا، تقف اللغة نفسها مرتبكة، كيف تردّ على من لم يُصغِ؟
فماروان، من أغنيته الأولى إلى ألبومه الأخير “Deira”، لا يغنّي عن فلسطين، بل منها. لا يستعملها، بل يسكنها. في لقاءاته، في كلماته، وحتى في صمته، تشعر بأنّ غزّة لم تخرج منه قط، بل تخرج معه على المسرح في كل مرّة.

قالها بوضوح:

“وجودي كفلسطيني فعلٌ سياسي.”
وقالها بنعمة:
“حين أُغنّي، أُحاول أن أُقيم جسورًا لا بيني وبين الجمهور، بل بيننا وبين الأرض.”

وربما هنا يكمن سرّ الجدل: الفنّان الذي يُشبه جيله، لا يُرضي الأجيال السابقة بسهولة. الفنّ الذي يُغنّى بالعامية، بالمزج، بالحبّ، وبالانكسار، لا يُصنّف بسهولة. هو ليس راية تقليدية، ولا نشيدًا كلاسيكيًّا. بل هو صوت يتسلّل من الشقوق، لا من المنابر.

وهكذا، تبقى الحقيقة التي لا تحتاج إلى دفاع: في تلك الليلة، لم يكن ثمة نجم على المسرح وجمهور في المدارج، بل كان هناك وطن صغير، حلم محمول في نغمة، صرخة محبوسة في وتر، ومدينة اسمها تونس احتضنت مدينة اسمها غزّة، ليس عبر السياسة… بل عبر الموسيقى.

إشترك في نشرتنا الإخبارية
اشترك معنا للتوصل بآخر الأخبار، المقالات والتحديثات، ترسل مباشرة لبريدك الإلكتروني
يمكنك سحب اشتراكك متى شئت

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.