صمت أعلى من الصراخ

بقلم: يوسف علاري
مخرج سينمائي فلسطيني
في اللحظات التي يُذبح فيها الإنسان الفلسطيني في غزة، ويعاني أكثر من مليون طفل هناك من التجويع والعطش تحت حصار خانق، يلوذ كثير من السياسيين والإعلاميين العرب بالصمت، ويغيب الفنانون والمثقفون عن المشهد غياباً فاضحاً. أولئك الذين ملأوا شاشاتنا ومهرجاناتنا بجرأتهم “الثورية” الزائفة في قضايا الجنس والتعري وما يسمونه “التحرر”، يقفون اليوم عاجزين أمام أبسط امتحان أخلاقي: قول كلمة حق في وجه المجازر الإسرائيلية ضد غزة. اختفت أصواتهم فجأة، وكأن الدم الفلسطيني مجرد همس لا يستحق أن يتحول إلى صرخة.
ما قيمة فنانٍ يملأ الشاشات بجرأة مصطنعة، يتباهى بمشاهد “جريئة” وكلمات رنانة عن الحرية، لكنه يعجز عن صياغة جملة واحدة تدافع عن شعب يُباد؟ وماذا عن إعلاميٍّ يرفع صوته في قضايا تافهة لكنه يبتلع لسانه حين تتعلق المسألة بدماء الأطفال؟ والسياسي الذي لا يملك من أمره شيئاً؟ هؤلاء ليسوا “ضمير الأمة” كما يزعمون، بل انعكاس صادق لسلطانهم: صمتٌ جبان يترجم صمت أنظمتهم.
تمرد مزيف وصمت مخزٍ
الفن في جوهره شهادة على العصر وضمير المجتمع، وتمرد ضد العبودية. لكن ما نشهده اليوم هو فن منزوع الشرف، وفنانون منزوعو الكرامة، يخفضون أصواتهم إلى حد العدم حين تُغتصب حقوق أمة كاملة في غزة. يزعمون التمرد، لكن تمردهم لا يتجاوز حدود النصّ المسرحي أو أستوديو التصوير.
التاريخ لا يسجل حفلاتكم الغنائية، ولا أدواركم السينمائية المصطنعة، بل يسجل صمتكم حين كان ميدان الشرف يناديكم، سيكتب التاريخ أنكم ادّعيتم ما ليس فيكم. أصواتكم العالية في التوافه خمدت أمام الأمور الجادة.
الغرب في الميادين والعرب في الصمت
المفارقة المؤلمة أنّ الشعوب الغربية، التي كثيراً ما تتهمها الشعوب العربية بالانحلال والتفاهة، تخرج اليوم في عواصمها بمظاهرات حاشدة وغير مسبوقة، تملأ الميادين دعماً للقضية الفلسطينية ودفاعاً عن غزة ورفضاً لجرائم الحرب الإسرائيلية الهمجية، بينما ترضخ معظم الشعوب العربية لصمت أنظمتها الديكتاتورية، وقد اختارت أن تنحني صاغرة تحت أقدام الاستبداد، متزينة بأقنعة الزيف، تتجرّع الذل، وتسوّغ الخيانة وتبرر الخنوع، وراضية لنفسها أن تكون ظلًا باهتًا في مسرح الطغاة.
نجوم العرب، أهل المواقف الثورية المصطنعة، اختفوا عن المشهد، وكأنهم في إجازة مدفوعة من الدم الفلسطيني.
هذا الصمت لا يفضح الأنظمة وحدها، بل يفضح أيضاً مجتمعات اختارت الانحناء بدل الشموخ، ويعري فنانين وصحفيين وإعلاميين وسياسيين خانوا جوهر رسالتهم وارتضوا بالذل سبيلاً. هؤلاء الذين طالما ادعوا أنهم “ضمير الأمة”، ظهروا اليوم بلا ضمير، بلا كرامة، بلا شرف.
سيسجل التاريخ أن أولئك الذين ملأوا الدنيا صخبًا بالحرية والحداثة، لم يجرؤوا على صرخة واحدة حين كان الدم الفلسطيني ينزف على الهواء مباشرة.
الفنان الذي لا يقف مع المظلوم، والإعلامي الذي يصمت أمام مذبحة، ليسا سوى شركاء في الجريمة. الصمت ليس فقط موقفاً ذليلاً، بل خيانة.
ومع ذلك، يبقى الأمل حياً. ستظل هناك أصوات حرة، قليلة وصافية، تؤمن أن الفن رسالة لا سلعة، وأن الإعلام شهادة لا بروباغندا. فالتاريخ لا يُكتب دائماً بأقلام السلاطين، بل أحياناً بصرخات صادقة تخرج من الهامش لتبقى في الذاكرة. غزة اليوم تنتظر هذا الصوت الحر، من فنان أو إعلامي شجاع، ليعيد إلى الكلمة شرفها، وإلى الفن معناه الحقيقي.